كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد اختلف أهل التأويل في المراد من لغو اليمين الذي ذكر اللّه أنه لا يؤاخذنا به وما هي المؤاخذة، على أقوال:
1- إن اللغو في اليمين: ما يجري به اللسان من غير قصد الحلف، كقول القائل:
لا واللّه، بلى واللّه، وإن عدم المؤاخذة به هو عدم إيجاب الكفارة به، وهو قول عائشة، والشعبي، وعكرمة، والشافعي، وأحمد.
2- إن لغو اليمين هو أن يحلف على شيء أنه كان فيظهر أنه لم يكن، أو شيء يعتقد أنه لم يكن فيظهر أنه كان. ومعنى عدم المؤاخذة به أنه لا يجب تكفيره، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وأبي حنيفة، ومالك. وهؤلاء لا يوجبون الكفارة في اليمين التي يحلفها صاحبها على ظنّ فيتبين خلافه، ويوجبون الكفارة فيما يجري على اللسان من غير قصد، وأصحاب القول الأول بالعكس.
3- أنه يمين الغضب.
4- أنه اليمين على المعصية.
5- أن دعاء الإنسان على نفسه كقوله: إن لم أفعل كذا فأصاب بكذا.
6- أنه اليمين المكفرة.
7- أنه يمين الناسي.
وهي كلها محتملة، ولعلّ أظهر الأقوال ما ذهب إليه الأولون، والحجة فيه: أن اللّه قسّم اليمين إلى قسمين: ما كسبه القلب، واللغو. وما كسب القلب: هو ما قصد إليه. وحيث جعل اللغو مقابله. فيعلم أنه هو الذي لم يقصد إليه وذلك هو ما قلناه من أنه هو ما يجري به اللسان من غير قصد إليه.
المعنى: لا يؤاخذكم اللّه بالأيمان التي تجري على ألسنتكم من غير قصد الحلف، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه، وعقدتم القلب عليه من الأيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ولذلك لم يؤاخذهم بلغو اليمين، ولو شاء لآخذهم بها.
قال اللّه تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}.
{يُؤْلُونَ} يقسمون، والأليّة: الحلف، يقال: آلى يولي إيلاء وأليّة، قال كثيّر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ** فإن سبقت منه الأليّة برّت

وإنّما عدّيت يؤلون بمن، وهي إنما تعدّى بعلى: إما لأنه ضمّن يؤلون معنى يعتزلون، وإمّا لأنّ في الكلام حذفا، وتقديره: للّذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، فترك ذكر يعتزلون اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
التربص: النظر، أو التوقف.
فاؤُ رجعوا، من الفيء بمعنى الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وقول الشاعر:
ففاءت ولم تقض الّذي أقبلت له ** ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

ويقال للظّل بعد الزّوال: في ء، لأنّه رجع بعد أن تقلّص، وهاتان الآيتان في حكم الإيلاء، وهو أن يقسم الرجل على أن يعتزل امرأته، وذلك إضرار بالمرأة، لأنه يتركها معلقة، فلا هي مطلقة يجوز لها أن تجد زوجا، ولا هي ذات بعل تجد منه ما تجد النساء من بعولتهن.
وقد اختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون المرء بها موليا، فقال بعضهم: لا يكون موليا إلا إذا حلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أما إذا حلف لا على وجه الإضرار فلا يكون موليا، ونسب هذا إلى علي رضي اللّه عنه، وابن عباس، وابن شهاب.
أخرج ابن جرير عن أبي عطية أنه توفي أخوه، وترك ابنا له صغيرا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه، فقالت: إني أخشى أن تغيلهما. فحلف ألا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما، فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا:
لحسن ما غذّي أبو عطية ابن أخيه، قال: كلا، زعمت أم عطية أني أغيلهما، فحلفت ألا أقربها حتى تفطمهما، فقالوا له: قد حرّمت عليك امرأتك، فذكرت ذلك لعلي رضي اللّه عنه فقال علي: إنما أردت الخير، وإنما الإيلاء في الغضب.
وقال آخرون: إنه يكون موليا سواء أحلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أم لمصلحة.
قال الشعبي: كلّ يمين منعت جماعا حتى تمضي أربعة أشهر، فهي إيلاء.
أخرج ابن جرير عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيا، فحلف ألا يطأها حتى تفطم ولدها، قال: ما أرى هذا بغضب، إنما الإيلاء في الغضب. قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا الذي يحدّثون، إنما قال اللّه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} إلى {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إذا مضت أربعة أشهر فليخطبها إن رغب فيها، فحجتهم أن اللّه قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} ولم يخصّص.
وحجة الأولين أنّ اللّه جعل مدّة الإيلاء مخرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته، فإذا لم يكن الامتناع عن مضارة، بل عن قصد الصلاح والخير، لم يكن بذلك موليا، فلا يكون هناك معنى لضرب الأجل، فتخرج من مساءته، إذ لا مساءة، وذهب قوم إلى أن يمين الإيلاء ليست مقصورة على الحلف بترك الوطء، بل تكون بالحلف على غيره أيضا، كأن يحلف ليغضبنّها، أو ليسوءنّها، أو ليحرمنّها أو ليخاصمنّها: كل ذلك إيلاء.
أخرج ابن جرير عن أبي ذئب العامري أن رجلا من أهله قال لامرأته: إن كلمتك سنة فأنت طالق، واستفتى القاسم وسالما فقالا: إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمّها فهي طالق إذا مضت أربعة أشهر، ونقل ذلك عن الشعبي أيضا.
وحجة هؤلاء أن اللّه جعل مدة الإيلاء مخرجا للمرأة من سوء عشرة الرجل، وليست اليمين على ترك الوطء بأولى أن تكون من معاني سوء العشرة من اليمين على أن يضربها، أو لا يكلمها، لأنّ كل ذلك ضرر عليها وسوء عشرة.
وظاهر هذه الأقوال كلها أن الإيلاء لابد فيه من اليمين، وقالت المالكية: إذا امتنع الرجل من الوطء قصد الإضرار من غير عذر، ولم يحلف، كان حكمه حكم المولي، لأنّ الإيلاء لم يرد لعينه، وإنما أريد لمعنى سوء العشرة والضرر، وهذا حاصل إذا ضارّها دون يمين.
وقد اختلف الفقهاء في الفيء الذي عناه اللّه بقوله: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال بعضهم: هو غشيان المرأة الذي امتنع عنه، لا فيئة له إلا ذلك، وإذا عرض عذر من مرض أو سفر، فلم يغش لذلك، ومضت مدة الإيلاء، بانت منه.
وقال آخرون: هو المراجعة باللسان، أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الغشيان.
وقال آخرون: هو المراجعة باللسان مقام الغشيان في حالة العذر، لأنّه لا يصير مضارا بترك الشيء إلا إذا كان قادرا على الإتيان به وتركه طواعية.
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}.
اختلف الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون في الطلاق الذي يكون عن ترك الفيء في الإيلاء، فقال بعضهم، وهو مذهب أبي حنيفة: إذا مضت الأربعة أشهر دون فيئة وقع الطلاق.
وقال آخرون وهو مذهب مالك: إن مضى الأجل لا يقع به طلاق، وإنما تقفه بعد أمام الحاكم: فإما فاء وإما طلق.
ومنشأ هذا الخلاف اختلافهم في تأويل الآية، فتأويلها عند الأولين {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} بترك الفيئة... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وتأويلها عند الآخرين {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ}. بعد انقضائها، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}.
وقد شبّه الأولون مدة الإيلاء بالعدة الرجعية، وشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي، وقد نقلوا أن الإيلاء كان طلاقا في الجاهلية، فأقره الشرع طلاقا، وزاد فيه الأجل.
وشبه الآخرون أجل الإيلاء بالأجل الذي يضرب في العنة، لأن اليمين على ترك الوطء ضرر حادث بالزوجة، فضرب للزوج مدة في رفعه، فإن رفعه وإلا رفعه الشرع عنها بالطلاق، كما يكون ذلك في كل ضرر يتعلّق بالوطء، كالعنة.
قال اللّه تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}.
ذكر اللّه تعالى أحكام عدة الطلاق:
أولها: وجوب العدة، وإنما وجبت العدة ليستدلّ بها على براءة الرحم من الولد، فيؤمن اختلاط الأنساب، والعدة للمطلقة ثلاثة قروء.
وقد أخرج من حكم الآية المطلقات اللائي طلّقن قبل الدخول، فلم يجعل عليهنّ عدّة، قال اللّه تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} [الأحزاب: 49] والحوامل، فجعلت عدتهنّ وضع حملهن، قال: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
وكذلك أخرج اللاتي يئسن من المحيض لصغر أو كبر، فجعلت عدتهن ثلاثة أشهر، قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فصارت العدة المذكورة في الآية التي هنا للنساء غير الحوامل المدخول بهن الممكنات المحيض.
والقروء: جمع قرء، ويطلق في كلام العرب على الطهر وعلى الحيض حقيقة، فهو من الأضداد.
وأصل القرء الاجتماع، وسمّي الحيض قرءا لاجتماع الدم في الرحم، وسمّي الطهر قرءا لاجتماع الدم في البدن.
وقد يطلق القرء أيضا على الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجيئة لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. يقال: أقرأت حاجة فلان عندي، أي: جاء وقت قضائها، وأقرأ النجم، إذا جاء وقت أفوله، وأقرأت الريح: إذا هبت لوقتها، قال الهذلي:
إذا هبّت لقارئها الرّياح أي هبت لوقتها، ولمّا كان الحيض معتادا مجيئه في وقت معلوم، سمّت العرب وقت مجيئة قرءا، ومن مجيء القرء بمعنى الحيض قوله صلى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت أبي حبيش «دعي الصّلاة أيام أقرائك».
ومن مجيئه بمعنى الطهر قول الأعشى:
وفي كلّ عام أنت جاشم عزوة ** تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مجدا وفي الذّكر رفعة لما ** ضاع فيها من قروء نسائكا

وقد اختلف في المراد من القروء في الآية، فذهب مالك والشافعي وابن عمر وزيد وعائشة والفقهاء السبعة، وربيعة وأحمد إلى أنها الأطهار.
وذهب علي وعمر وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي: وابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى أنّها الحيض.
وفائدة الخلاف أنه إذا طلّقها في طهر خرجت عن عدتها عند الأولين بمجيء الحيضة الثالثة، لأنّها يحتسب لها الطهر الذي طلقت فيه، ولا تخرج من عدتها إلا بانقضاء الحيضة الثانية عند الآخرين، وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي أنهما قالا: لا تحل لزوجها الرجعة إليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة.
وقد احتجوا لترجيح المذهب الأول بأمور منها: أنه أثبت التاء في العدد ثلاثة فدل ذلك على أن المعدود مذكّر، وهو لا يكون مذكّرا إلا إذا كان المراد الطهر، وإذا كان المراد الحيضة كان مؤنثا. ومنها قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ومعناه: في وقت عدتهن، ولكنّ الطلاق في زمان الحيض منهيّ عنه، فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض.
وأجيب بأن معنى الآية: مستقبلات لعدتهن.
وقد احتجوا لترجيح المذهب الثاني بأمور: منها: أننا أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة، فكذا العدة تكون بالحيضة، لأن الغرض منها واحد. ومنها أن العدة شرعت لبراءة الرحم، والذي يدل على براءة الرحم إنّما هو الحيض لا الطهر.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلّم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان».
ومن المعلوم أنّ عدة الأمة نصف عدة الحرة، فإذا اعتبرت عدّة الأمة بالحيض، كانت عدة الحرة كذلك.
والمسألة كما ترى محتملة، ولكنّ مذهب الفريق الثاني أرجح من جهة المعنى.
وقد زعم بعضهم أنّ قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} خبر في معنى الأمر، لئلا يلزم الكذب في خبره تعالى إذا لم تتربص بعض المطلقات.
وهذا غير لازم، لأنّ اللّه أخبر عن حكم الشرع، فإن وجدت امرأة لا تتربّص لم يكن ذلك حكما شرعيا.
{وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
قيل: المراد بما خلق اللّه في أرحامهن الحيض، وقيل: الحمل. وقيل: هما معا. وهذا دليل على أن المرأة مؤتمنة على ما في رحمها، يقبل قولها فيه، لأنّه لا يعلم إلا من قبلها، وإنّما حرّم اللّه أن يكتمن ما في أرحامهنّ، لأنّه يتعلق بذلك حق الرجعة للرّجل، وعدم اختلاط الأنساب، وإذا لم تحافظ المرأة على ذلك، فربما حرمت الرجل من حقّه في الرجعة، وربما ادّعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرّحم بالحمل من المطلّق، ثم تزوجت، فأدّى ذلك إلى اختلاط الأنساب.
ولعل قائلا يقول: إنّ ظاهر الآية أنّ اللّه شرط عدم حلّ الكتمان بكونهنّ يؤمنّ باللّه واليوم الآخر، فإذا لم يكنّ كذلك، فهل يجوز لهنّ أن يكتمن؟
فنقول: إنّ هذا كقول القائل: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، على معنى: إن كنت مؤمنا فإيماك يمنعك من الظلم. وكذلك هنا: إن الإيمان باللّه واليوم الآخر ينبغي أن يمنع كتمانهنّ ما في أرحامهنّ، وهذا وعيد شديد.
والآية تدل على أن من ائتمن على شيء فلا يحلّ له أن يخون فيه، وهذا مقتضى الإيمان باللّه واليوم الآخر.
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحًا}.
هذا هو الحكم الثاني من أحكام الطلاق، وهو ارتجاع الرجل المرأة ما دامت في عدتها.
وبعولة: جمع بعل وهو الزوج، ويطلق على المرأة: بعلة، وهما: بعلان، وهو في الأصل بمعنى السيد المالك، يقال: من بعل هذه الناقة؟ أي من ربّها؟
المعنى: وأزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة التربص إن أرادوا إصلاحا، لا مضارّة المرأة، وظاهر الآية أن اللّه يشترط في الرجعة إرادة الإصلاح، فإذا أراد المضارّة فليس له حقّ الرجعة، والأمر كذلك، ولكن لما كانت هذه الإرادة لا اطلاع لنا عليها عاملناه بظاهر أمره، وجعل اللّه ثلاث التطليقات علما عليها، ولو تحققنا من ذلك لطلقنا عليه.
وفيما بينه وبين نفسه لا يجوز له أن يراجع إن قصد الضرر لا الإصلاح.
وحق الرجعة مقصور على المطلقة طلاقا رجعيا.
واختلف العلماء فيها في مدة التربّص: أحكمها حكم الزوجة، أم ليست كذلك؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنها حكمها حكم الزوجة، وذهب مالك إلى أنها ليست كالزوجة، وابتني على هذا الخلاف أنّ أبا حنيفة يجيز مباشرتها مدّة التربص، ومالك يمنعه قبل الرجعة.
ويظهر أن منشأ الخلاف اختلاف الفهم في هذه الآية، فقد سمّاه اللّه بعولة، وهذا يقتضي أنهن زوجات، وقال: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهذا يقتضي أنهن لسن بزوجات، إذ الردّ إنما يكون لشيء قد انفصم، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الرجعية زوجة، وفائدة الطلاق نقص العدد، وأولوا قوله: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فقالوا: إنّهن كن سائرات في طريق لو وصلن إلى نهايته لخرجن عن الزوجية، فالارتجاع ردّ لهنّ عن التمادي في ذلك الطريق.
والمالكية أوّلوا قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} فقالوا: سماهم بعولة باعتبار ما كان ومعنى {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ردهن إلى الزوجية.
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
هذه كلمة وجيزة بيّنت نظر الشارع إلى عقد الزواج، فليس الزواج في الشريعة الإسلامية عقد استرقاق وتمليك، إنما هو عقد يوجب على الزوج حقوقا للمرأة. كما يوجب على المرأة حقوقا للزوج، فما من حقّ للزوج على المرأة إلا وفي نظيره حق لها عليه، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف ضد المنكر. ثم قال: {وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} والدرجة المنزلة، وأصلها من درجت الشيء أي طويته، والدرجة قارعة الطريق، لأنّها تطوي منزلا بعد منزل، والدرجة المنزلة من منازل الطريق، ومنه الدرجة التي يرتقى فيها، وهذه الدرجة التي جعلها اللّه للرجال على النساء هي ما أشار إليها بقوله: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} [النساء: 34].
ونحن نعلم أن كثيرا من الزنادقة الذين يريدون أن يفتنوا النساء عن دينهن، يأتون إليهن من جهة أن الإسلام غمط حقوقهنّ، وجعلهنّ إماء عند الرجال، ولو تأمّل نساء الإسلام في هذه الآية لرأين هذه المنزلة التي رفعهنّ اللّه إليها، ولم ترفعهن إليها الحضارات القديمة، ولا الحضارات الحديثة، ولعلمن أنّ هؤلاء مخادعون، يبغّضونهنّ في شريعة كانت شفيقة بالمرأة، بارّة بها، أعتقتها من رق العبودية، وفكّت عنها الأغلال والقيود التي كانت ترسف فيها في القديم، وأنّ شريعة هذا نظرها إلى المرأة لجديرة بأن تحترم وتقدّس من النساء جميعا، وإنما ذكر اللّه هنا أنّ لهن مثل الذي عليهنّ بالمعروف، وللرّجال عليهن درجة، ليبيّن أنه شرط في الرّجعة إرادة الإصلاح، لأنّ للمرأة حقوقا مثل ما عليها، وجعل للرّجل حقّ الرجعة لأنه يزيد عليها درجة.
ثم قال: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلا يغالبه من فرّط في حقوق الزواج، وهو حكيم فيما شرع، يعلم المصلحة، ويضع الأشياء في مواضعها.
قال اللّه تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}.
أخرج ابن جرير الطبري، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلّق ما شاء، ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتّها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلين مني، قالت له: كيف؟ قال:
أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك.
قال: فنقلت ذلك إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزل اللّه تعالى ذكره: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ الآية.
فعلى هذا تكون الآية نزلت لبيان عدد الطلاق الذي للرجل فيه الرجعة، والعدد الذي إذا انتهى إليه فلا رجعة له عليها، وقد كان أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزول هذه الآية لا حدّ للطلاق عندهم، وكان ذلك قد يؤدي إلى الإضرار بالمرأة، فتترك لا هي بذات زوج، ولا هي خليّة تحلّ للأزواج.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية لتعريف الناس سنّة طلاقهم، وكيف يطلّقون.
أخرج ابن جرير عن عبد اللّه في قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} قال: يطلقها بعد ما تطهر، من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتمّ ثلاث حيض، وتبين منه به.
وعلى هذا يكون قد بيّن اللّه سنّة الطلاق في هذه الآية، وبين أنّ من سنته تفريق الطلاق ومنع الاجتماع، ولأنّه قال: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرّقتين، لأنّها إن كانتا مجتمعتين، لم يكن مرتين. ويدل عليه أن الشارع قد طلب أن يسبّح المرء ويحمد ويكبر دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ولا ينفعه إلا أن يفعل ذلك ثلاثا وثلاثين مرّة، ولا يكفيه أن يقول: سبحان اللّه ويتبعها بلفظ ثلاثا وثلاثين، وأنه إذا فعل ذلك يكون مسبحا مرة واحدة لا ثلاثا وثلاثين.
وقد ثبت أن الآية دلت على طلب التفريق في إيقاع الطلاق، فإذا خالف المطلّق وجمع الثلاث في لفظ واحد، فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إنه لا يقع إلّا واحدة، قال الفخر الرازي: وهو الأقيس، لأن النهي يدلّ على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود، وهذا غير جائز، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع.
وقالت الأئمة الأربعة وغيرهم: تقع الثلاثة إما مع الحرمة، وإما مع الكراهة، على حسب اختلافهم في ذلك.
وقد استدلّ الأولون من السنة بما رواه أحمد ومسلم من حديث طاوس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، قالوا: وإمضاء الثلاث إبطال للرخصة الشرعية والرفق المشار إليه بقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].
وللأئمة أحاديث أخرى ذكرت في كتب السنة، واستقصاء الخلاف والأدلة في هذه المسألة يطلب من نيل الأوطار وإعلام الموقعين لابن القيم.
ومنشأ الخلاف في الطلاق- ما ذكرناه وما لم نذكره- الاختلاف في أسباب النزول وفي الآية هل هي متعلقة بما قبلها، أم مستقلة عنها؟ ونحن نجمل ذلك فنقول: إن اللّه قد عرّف الطلاق بأل، فذهب بعضهم إلى أن التعريف للعهد، أي الطلاق المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، وهذا مروي عن الرافضة والحجاج بن أرطاة، وعلى هذا تكون الآية مستقلة عما قبلها.
وقال بعضهم: معناه أنّ الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، فتكون الآية مرتبطة بما قبلها، فاللّه لما ذكر أنّ بعولتهنّ أحقّ بردهنّ أراد أن يبيّن الطلاق الذي فيه الرجعة، وقال بعضهم: معناه الطلاق المسنون مرتان، وهذا مذهب مالك، وقال بعضهم: معناه الطلاق الجائز مرتان، وهذا مذهب أبي حنيفة.
والقول الأول يناسبه في سبب النزول ما روي عن عروة، وبقية الأقوال يناسبها في سبب النزول ما روي عن عبد اللّه.
ونحن نرى أن الطلاق هدم للأسرة، وتمزيق للمنزل، وضرره يتعدى إلى الأولاد. فإنّ الأولاد في حضن أمهاتهم يكونون موضعا للرعاية وحسن التربية.
بخلاف ما إذا كانوا في حضن أجنبية عنهم، والشريعة تنظر إليه هذا النظر. ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق».
والشريعة أجازته مع هذا الضرر لدفع ضرر أشد، وتحصيل مصلحة أكثر. وهي التفريق بين متباغضين ليس من المصلحة الجمع بينهما، وقد أراد الشارع ألا يفرّق بالطّلاق بين متحابين من الخير أن يجتمعا، وألا يفرق به إلا بين متباغضين من الخير أن يفترقا، فجعل الطلاق المشروع مرتين متفرقتين في طهرين كما دلت على ذلك السنة، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلّق، وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الروية وهذه الأناة إلا متفرّقان طبعا، من الخير ألا يجتمعا.
وإذا كانت حكمة الطلاق ما ذكرناه سقط قول الناقمين على الشريعة من أنها لم تحترم عقد الزوجية، وتعطه ما يجب له من الحيطة والرعاية.
وليس عندنا من المراجع ما نعلم منه حقيقة مذهب الحجاج والرافضة. ونتبين أنهم يرون الذي سار في الطلاق على هذا السنن وطلق اثنتين، ثم لم يطلق الثالثة، وعاشر بإحسان قد بقيت له واحدة فقط، فإذا أراد أن يطلق لم تكن له إلا واحدة أم هم يرون أنّه قد هدم الطلاق، وإذا أراد أن يطلّق كان له الثلاث من جديد، وأنّ هذا شرع الطلاق، فلا يطلق إلا بهذه الصفة.
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
الإمساك خلاف الإطلاق، والتسريح الإرسال، وسرّح الماشية تسريحا إذا أرسلها إمساك بمعروف، إن وجد نفسه لا تطيق فراقها، أو رأى المصلحة في بقائها زوجة، وإما تسريح بإحسان إن أعطته تجربة هذه المرأة أنه لم يتعلّق بها قلبه، ورأى الفراق خيرا له، وتلك هي حكمة الرجعة، وجعل الطلاق مرتين، فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها، ولا يجد المرء لذة النعمة حتى يذوق طعم النّقمة، وما دام مع صاحبه لا يدري أتشقّ عليه الفرقة أم لا؟ فجعل الطلاق مرتين، وجعل له حق الرجعة، ليعلم أتشقّ عليه فرقتها أم لا؟ ولو جعل الطلاق مرّة واحدة لا رجعة فيها لوقع الناس في بلاء عظيم.
ومعنى الإمساك بمعروف أن يراجعها قصد المعاشرة الحسنة، لا قصد المضارّة، والتسريح بإحسان ألا يذكر عيوبها، وأن يحسن فراقها.
وقد اختلف في المراد بالتسريح، فقيل: هو أن يتركها دون مراجعة حتى تنقضي عدتها. وقيل: هو أن يطلّقها الثالثة.
وقد رجّح الأول بأنّ حمل الآية عليه يجعلها مستوفية للأقسام، لأنّ المطلّق اثنتين:
إما أن يراجع، وهو الإمساك بمعروف، وإما أن يطلق الثالثة وهو قوله: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} وإما أن يسكت فلا يطلّق الثالثة. ولا يراجع، وهو التسريح بإحسان.
ورجّح الثاني بما روي أنه لما نزل قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} قيل له صلّى اللّه عليه وسلّم فأين الثالثة؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: هو قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} ويكون قوله: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} إن طلقها الطلقة الثالثة المذكورة في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ}.
قال اللّه تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
طلب اللّه عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان، ونهى أن يأخذوا شيئا مما آتوهن من المهر أو غيره، ثم بيّن أنه لا يحل الأخذ إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود اللّه، فإذا حصل الخوف جاز للمرأة أن تفتدي، وجاز للرجل أن يأخذ، وطلاق المرأة على هذا الوجه هو المعروف عند العلماء بالخلع.